مفهوم الغير
يحيل مفهوم الغير على وجود بشري اخر، اي ان هناك انا اخر مماثل لي ومختلف عني في نفس الوقت قد يكون فردا او جماعة، معلوما أو مجهولا، صديقا أو عدوا.
ويعتبر مفهوم الغير واحدا من المفاهيم الفلسفية الحديثة التي لم تحتل مركز الصدارة إلا مع فلسفة هيغل، بعدما كان كل اهتمام التفكير الفلسفي لمفهوم الغير يتمحور حول الذات. وبما أن الذات يمكنها انتاج أفكارا مغلوطة حول موضوعات خارجية بسبب خداع الحواس، فيمكن لهذا الأمر ان يدفعنا إلى الشك في مفهوم الغير، ووضع وجوده بين قوسين. وبذلك يمكن ان يترتب عن ذلك: إنتاج معرفة حول الغير تتميز بالاختلاف، أو عدم انتاجها اصلا، إضافة إلى تعدد وتنوع العلاقة مع الغير. وكل هذا ما يمكن التعبير عنه بواسطة الأسئلة الآتية:
ما هو مفهوم الغير؟ هل الغير موجود أم لا؟ وهل معرفة الغير ممكنة؟ وفي حالة ما كانت معرفة الغير ممكنة كيف يمكن أن نبني هذه المعرفة؟
وأخيرا كيف يكون الغير هو المماثل لي والمختلف عني في نفس الوقت؟
المحور الأول : وجود الغير
تمهيد لمحور وجود الغير:
يعتبر مفهوم الغير من أبرز المفاهيم الفلسفية الحديثة والتي احتلت مع فلسفة هيغل مركز الصدارة، بعدما كان كل اهتمام التفكير الفلسفي يتمحور حول الذات، وبما أن الذات يمكنها انتاج أفكارا خاطئة حول موضوعات خارجية وذلك نتيجة خداع الحواس، فإن هذا الأمر قد يدفع إلى الشك في الغير، ووضع وجوده بين قوسين، مما يؤدي إلى إنتاج معرفة حول الغير تتميز بالاختلاف، أو احتمال عدم إنتاجها أصلا، إضافة إلى تعدد وتنوع العلاقة التي تربطنا به، وهذا ما يمكن التعبير عنه بواسطة الأسئلة الآتية:
هل الغير موجود أم لا؟ وهل معرفته ممكنة؟ وإن كانت كذلك كيف يمكن أن نبني هذه المعرفة؟ وفي الأخير ما طبيعة العلاقة التي تربط الذات بالغير؟ وما هي أهمية الغير في إدراك وجود الذات؟
الاشكالية:
هل وجود الغير شرط ضروري أم غير ضروري بالنسبة للانا من أجل ادراك وجودها ومعرفتها لنفسها؟
المواقف و المقاربات الفلسفية:
ديكارت: ( وجود الغير غير ضروري )
ينطلق ديكارت من فكرة أساسية وهي تجربة الشك للإثبات.
فإثبات الانا كذات مفكرة عند ديكارت ينطلق من قولته الشهيرة: “انا افكر اذا انا موجود“
ومن هنا نجد أن ديكارت شك في كل شيء، إلا أنه لم يشك في وجود الغير كذات مفكرة وواعية، أي أنه كذات يمارس عملية الشك، وما دام يمارس عملية الشك فهو في نفس الوقت يمارس عملية التفكير، بحيث انه يدرك وجوده من خلال التفكير، ويعي تماما بأن ذاته هي ذات واعية ومفكرة. وبالتالي فوجود الانا بالنسبة لديكارت هو وجود يقيني لا يطاله الشك لأن ادراك الذات يتم بشكل حدسي دون وساطة الغير.
ومع ذلك يبقى وجود الغير عند ديكارت وجودا إفتراضي، يعني أنه ليس بوجود يقيني على غرار الذات، ويمكن التوصل إليه عن طريق الإستدلال بالمماثلة وإدراكه عن طريق الحواس.
وبالتالي فالنتيجة التي يمكن التوصل لها إنطلاقا من الفكرة الأساسية لديكارت هي أن وجود الانا لا يتوقف على وجود الغير، يعني أن الغير ليس شرطا ضروريا للوعي بالذات أو لادراك وجودها.
في مقابل ديكارت الذي أدخل الذات في عزلة أو بعيدة عن عالم الاخر نجد الفيلسوف الألماني هيغل مؤسس الفلسفة الجدلية.
هيغل: ( وجود الغير من أجل ادراك وجود الذات ضروري )
على عكس ديكارت يرى هيغل أن وجود الغير ضروري بالنسبة للانا من اجل ادراك وجود الذات، أي أنه لا يمكنني أن أدرك وجودي في غياب الغير بل فأنا أحتج الى وجود الغير من أجل ادراك وجودي.
ويرى هيغل أيضا أن الانا هي في حاجة الى كل ما هو اخر مختلف، اي ان كل وعي هو في حاجة الى نقيضه من اجل تحقيق الوعي بذاته. ولتبسيط هذه العملية يطرح هيغل نموذج علاقة السيد والعبد، فالسيد لا يمكنه أن يعي وجوده كسيد دون وجود الغير الذي هو العبد، وكذلك بالنسبة للعبد، فلا يمكنه أن يعي وجوده كعبد دون وجود سيد له. وهنا يمكننا استنباط نضرية النقيض التي طرحها هيغل، وهذه الفلسفة تسمى الفلسفة الجدلية والتي تنطوي على صراع الاضداد وصراع المتناقضات. وكخلاصة فالانا بحسب تصور هيغل لا يمكنها ان تعي وجودها في غياب وجود الغير المختلف والذي يعتبر كنقيض.
إذا فكل من ديكارت و هيغل اجابو معا على اهمية الغير على المستوى الوجودي. فاهمية الغير على المستوى الوجودي عند ديكارت فهي غير حاضرة، وعكس ذلك يرى هيغل ان مفهوم الغير يحتل مكانة مهمة في فلسفة الوعي.
جون بول سارتر: (وجود الغير شرط ضروري من أجل معرفة وجود الذات)
ويتفق سارتر مع هيغل حول وجود الغير، حيث يعتبر هو الاخر وجود الغير شرطا ضروريا لمعرفة الذات لذاتها. بحيث لا يمكن التعرف على الذات أو مقومات الذات بدون الغير كوسيط.
وينطلق سارتر في بناء موقفه من اعتبار وجود الغير هو الوسيط بيني وبين ذاتي. أي انه لا يمكن تكوين اي معرفة حول الذات دون المرور عبر الغير، ومن أجل معرفة أي شيء حول الذات كمعرفة سمات شخصيتي مثلا لابد من وجود الغير، بحيث ينطلق سارتر من نظرة الغير وكيف تقوم هذه النظرة بدور الوساطة من أجل بناء تصوره. وفي هذا السياق ينطلق سارتر من نموذج اساسي ألا و هو نموذج الخجل كضرب من ضروب الاحساس ومقوم من مقومات الذات لا يمكن ادراكه دون وجود الغير.
المحور الثاني : معرفة الغير
البناء الاشكالي لمعرفة الغير:
الهدف من هذا المحور هو دراسة مشكلة معرفة الغير، بمعنى محاولة ادراك الغير كذات بين الامكانية والاستحالة.
الاشكالية:
هل معرفة الغير كذات ممكنة ام مستحيلة ؟ واذا كانت ممكنة، فكيف ذلك ؟ أما اذا كانت مستحيلة، فما هي العوائق التي تقف امام تحققها ؟
المواقف و المقاربات الفلسفية لمعرفة الغير:
جون بول سارتر: (معرفة الغير غير ممكنة)
معرفة الغير تقتضي تحويله الى موضوع والنظر اليه كشيء
يرى سارتر ان مغرفة الغير مستحيلة، يعني يستحيل معرفة الغير كذات مماثلة للانا وكوجود مستقل عن وجود الشخص. اذ يؤكد سارتر على أن معرفة الغير مستحيلة لانه انسان يشبهني واشبهه. وينطلق جون بول سارتر في بناء هذا التصور من كون معرفة الغير تقتضي تحويله الى موضوع والنظر اليه كشيء. ومن هنا يمكننا الانطلاق من مفهومين أساسيين، ألا وهما: كيف يمكن اعتبار الغير كموضوع ؟ وكيف يمكم اعتباره كشيء ؟
إذا بالنسبة لسارتر فيرى انه عند محاولة معرفة الغير، أول شيء أقوم به هو النظر اليه من أجل تكوين صورة له في مخيلتي، هذه النضرة تمكنني من تحديد الملامح الخارجية لهذا الشخص، ومن هنا تحويله من ذات إلى شيء، وذلك بسبب تركيزي على الجوانب الخارجية. إذا كلما ركزنا معرفتنا على الشخص باعتباره ذات إنسانية على الجسد نحوله إلى شيء.
أما بالنسبة لتحويل الغير الى موضوع فيرى جون بول سارتر أنه أمر مرفوض، لانه بمجرد تحويل الغير لموضوع يتم تشبيهه بباقي الكائنات الاخرى بدون تمييز، وهذا ما يركز عليه سارتر فيما يخص الشخص بين الضرورة والحرية، بحيث أن الانسان ليس له تعريف نهائي وليس له شكل نهائي، أي أن أنا اليوم ليس هو أنا الغد، والمعرفة المشكلة على الغير هي مجرد صورة لا توجد إلى في أذهاننا.
وبالتالي فمعرفة الغير حسب سارتر ممكنة فقط أن الغير ليس موضوعا أو جسدا بل ذاتا ومن هنا يمكن القول أن معرفة الغير مستحيلة.
إذا إذا كان جون بول سارتر يرى أن معرفة الغير غير ممكنة وتؤدي إلى تشيئ الغير وتحويله إلى موضوع فالفيلسوف ميرلوبونتي يدافع على طرح مغاير ألا وهو معرفة الغير كذات ممكنة.
ميرلوبونتي : (معرفة الغير كذات ممكنة)
نظرة الغير لا تحول الشخص الى موضوع كما أن نضرة الشخص لا تحول الغير الى موضوع
وينطلق ميرلوبونتي من فكرة أساسية هي أن الغير وحدة لا تقبل التجزيئ، أي انا الغير ليس كتلة جسدية بل هو روح وجسد، مضهر خارجي وداخلي. إذا كل جسد يحمل بداخله روح تطرؤ عليها مجموعة من التقلبات والانفعالات الداخلية، بحيث أن كل انفعال داخلي إلا وله صورة خارجية تظهر في بعض الأحيان من ملامح وجه الشخص. ويرى ميرلوبونتي أيضا ومن خلال رده المعارض على جون بول سارتر أن نظرة الغير لا تحول الشخص الى موضوع كما أن نضرة الشخص لا تحول الغير الى موضوع. ويقترح ميرلوبونتي اليتين من أجل معرفة الغير وهما:
- معرفة الغير ممكنة عبر تواصل حي ومباشر يمكنني من التعرف على أفكاره.
- معرفة الغير ممكنة عبر التعاطف أي المشاركة الوجدانية وذلك باستحضار الشخص لاحزانه أو أفراحه من أجل معرفة أحزان أو أفراح الغير.
مالبرانش :
معرفة الغير غير ممكنة على الرغم من التشابه و الاشتراك الحاصل بين الذوات
وفي مقابل ميرلوبونتي يعتبر مالبرانش المعرفة التي يدافع عنها ميرلوبونتي هي معرفة غير ممكنة لانها تنطلق من عنصر أساسي وهو المماثلة، حيث أن معرفة الغير عبر المماثلة مستحيلة، أي أنه باعتبار ضرفية ما (سلوك مغضب مثلا) فالشخص والغير ليس لهما نفس السلوك، وبالتالي فلن يكون لهما نفس ردة الفعل. ومما سبق يرى مالبرانش أن معرفة الغير غير ممكنة على الرغم من التشابه و الاشتراك الحاصل بين الذوات، والتالي فهناك معارف مشتركة بين الانا والاخر لكنها لا ترقى الى مستوى معرفة الغير وتمثله، أي أنه لا نستطيع معرفة الغير كمعرفتنا لذواتنا، وأية حلول لذلك مالها الفشل بحكم الاختلاف لا التشابه.
استخلاص معرفة الغير:
يمكننا التأكيد مما سبق على أن معرفة الغير تحمل في طياتها مفارقة و إحراجا: فمعرفة الغير تتطلب اعتباره مجرد “موضوع” أي معرفة تشييئية للذات، الشيئ الذي يؤدي الى الاصطدام بمسألة الحرية الإنسانية، مما يحول دون معرفة الغير كذات. كما تواجه معرفة الغير صعوبات بوصفها مبنية فقط على التعاطف الوجداني مع الغير. ولكن معرفة الغير تظل نسبية في جميع الحالات. إلا أنها تتجاوز العلاقة المعرفية إلى علاقات أعقد: أخلاقية، عاطفية، سياسية، اقتصادية… تتسم بطابعي التنوع و الاختلاف تبعا لتنوع أوجه الغير.
المحور الثالث : العلاقة مع الغير
يبدو من خلال المحورين السابقين (وجود الغير ومعرفة الغير) أن وجود الغير ضروري سواء كان إيجابيا أو سلبيا وأن معرفة الغير تتراوح بين الإمكان والاستحالة، كل ذلك يتحدد تبعا لطبيعة العلاقة مع الغير والتي ينبغي أن تتجاوز المستوى الأنطولوجي والمعرفي إلى ما هو قيمي وأخلاقي.
الاشكالية:
فما طبيعة العلاقة مع الغير ؟ وما هو الأساس الذي تقوم عليه العلاقة مع الغير: هل على الصداقة أم على العداوة ؟
المواقف و المقاربات الفلسفية للعلاقة مع الغير:
علاقة العداوة :
تعتبر جوليا كريستيفا الغريب سكينا لنا على نحو غريب، بحيث ترفضكريستيفا المعنى اليوناني القديم لمفهوم الغريب والمرتبط بالاخر، الذي نكن له مشاعر الحقد باعتباره ذلك الدخيل المسؤول عن الشرور، أو ذلك العدو الذي وجب القضاء عليه لإعادة السلم إلى المجتمع. وبحسب نظر كريستيفا حول العلاقة مع الغير فبمعرفة الغير، نستبعد أن نبغضه في ذاته. إن الغريب يبدأ عندما ينشأ لدي الوعي باختلافي، وينتهي عندما نتعرف على أنفسنا جميعا وندرك أننا غرباء متمردون على الروابط الاجتماعية. كما تنتقد كريستيفا الدلالة الحقوقية المعاصرة للغريب والتي تطلق على الشخص الذي لا يتمتع بمواطنة البلد الذي يقطنه، لأنها تطمس الوضعية المختلف التي يتخذها الإنسان داخل جماعة بشرية بحيث تنغلق على نفسها مقصية المخالفين لها. هذا التنافس على التشيئ وإثبات الذات وانتزاع الاعتراف، هو ما قد أكده من قبل الفيلسوف الألماني هيجل فيما يخص العلاقة مع الغير، مبينا في جدلية العبد والسيد أن العلاقة بين الأنا والغير قائمة على الصراع الذي يؤدي في النهاية إلى تفاعل الذوات الإنسانية ودخولها في علاقات جدلية. فالذات لن تأخذ مكانها في الوجود إلا باعتبارها السيد أو العبد. وهذا الصراع مستمر في الزمان والمكان بما أن كل ذات تسعى إلى انتزاع الاعتراف بشكل دائم. يترتب على ذلك أن العلاقة مع الغير علاقة صراعية صدامية وهي جوهر الوجود البشري العلائقي التفاعلي.
علاقة الصداقة:
قد يشكل الصراع وجها من أوجه العلاقة مع الغير إلا أنه ليس الوجه أو التجلي الوحيد. فالأنا والغير يرتبطان أيضا بعلاقات حب واحترام، وأكثر من ذلك علاقات تضحية وإيثار وهي قيم أخلاقية تساهم في بناء الوجود المشترك وتنميته.
إن الصداقة باعتبارها مثالا هي علاقة بين شخصين أو أكثر، تقوم على الحب والاحترام في نظر إيمانويل كانط، وغاية هذا المثال هي تحقيق الخير للصديقين الذين جمعت بينهما إرادة طيبة. بحيث يتولد عن مشاعر الحب تجاذب بين الصديقين، في حين يتولد عن مشاعر الاحترام تباعد بينهما. وإذا تناولنا الصداقة من جانبها الأخلاقي في العلاقة مع الغير، نجد أن من واجب الصديق تنبيه صديقه إلى أخطائه كالما ارتكابها، وكل ذلك من أجل الخير له. وتشكل أخطاء الشخص تجاه صديقه إخلالا بمبدأ الاحترام بينهما. ومن هنا يرى كانط أنه لا يجب أن تقوم الصداقة على منافع مباشرة ومتبادلة، بل يجب أن تقوم على أساس أخلاقي خالص. ويمكن للصداقة في العلاقة مع الغير، أن تعترضها صعوبات تجعلها عبئا ثقيلا على الذات، لكنها رغم ذلك تظل ضرورية ما دامت واجبا عقليا أخلاقيا خالصا منزها عن المصلحة والمنفعة. هذه الضرورة في العلاقة مع الغير سبق للفيلسوف اليوناني أرسطو أن أكد عليها، معتبرا الصداقة حاجة طبيعية، لأنها نتاج الإحساس الطبيعي الفطري بالحب نحو الآخر. هذا الإحساس مشترك بين جميع الكائنات. لكن الصداقة بالنسبة للإنسان فضيلة أخلاقية وعلامة على الإرادة الخيرة والطيبة، وهي ضرورية لأن لا أحد يقبل العيش بدون أصدقاء ولو كان يملك كل الخيرات.
تعليقات
إرسال تعليق