مجزوءة المعرفة
تقديم : تعتبر المعرفة في مجزوءة المعرفة بصفة عامة كل ما ينتج عن انفتاح الفكر، ويبدو أن جدلية الفكري ( الذات ) والواقعي ( الموضوع ) تحتل مكانا أساسيا في بناء المعرفة العلمية. ومن أجل فهم تصورات مجزوءة المعرفة يمكن طرح التساؤل التالي: هل يمكن لهذه المعرفة أن تبنى بناء نظريا خالصا، أم أن تصبح نظرية علمية حقة، باستحضار موضوع دراستها استحضارا واقعيا (تجريبيا)؟ إن طبيعة هذا التساؤل تعكس الإشكالية الأساسية للنظرية والتجربة. فإذا كان العلم علم بواقع ما كما يرى البعض (كلود بيرنار) فإن ذلك الواقع يقتضي منا استحضاره كمنطلق لبناء أية نظرية ومعرفة مدى صدقها أو عدم صدقها. ولعل عملية الاستحضار هذه في مجزوءة المعرفة تقودنا الى إثارة مسألة التجربة و التجريب. فما المقصود بالتجربة ؟ وما المقصود بالتجريب ؟ و هل يمكن اعتبارهما إسمين يحملان نفس الدلالة، أم أن لكل دلالته الخاصة، بالرغم مما يمكن أن يحصل من تداخل أو تقاطع بينهما ؟ و يقود مفهوم التجربة أيضا في مجزوءة المعرفة الى طرح التساؤل التالي: هل المقصود بالتجربة هو تلك الممارسة التي تتم داخل المختبر، ونكون خاضعة لشروط محددة، أم أن التجربة يمكن أن تحمل دلالة أخرى تجعل منها فكرية محضة (روني طوم).إن المعرفة العلمية في مجزوءة المعرفة إذن هي بناء منظم من الأفكار والتصورات، يبدأ من الواقع وينتهي إلى تفسيره، بحيث أن العالِم Scientist هو بالأساس شخص يسلك طريقه الخاص من أجل الحصول علي هذه المعرفة.
المحور الأول : التجربة والتجريب
تقديم إشكالي : في هذا الدرس سنتطرق لمفهومين وهما النظرية والتجربة. فلأول وهلة يبدو أن اللفظين النظرية والتجربة هما مفهومين متضادين ومتعارضين، فالأول يقترن بالتفكير والتأمل، بينما الثاني فيقترن بالممارسة والعمل. واعتماد التجربة في محاولاتها لتفسير ظواهر الكون على كل منهما وبنفس القدر، يفيد أن العلاقة بينهما هي أكثر تعقيدا مما يبدو، وتتعدى التضاد والتعارض نحو التحاور والتكامل.ومن هنا فكل من التجربة والتجريب يحيلان على نقاش الاشكاليات التي يطرحها المنهج التجريبي والذي يتكون من أربع خطوات أساسية، وهي:
- الملاحظة.
- الفرضية.
- التجريب.
- الاستنتاج.
إشكالية النظرية والتجربة:ما دور التجربة والتجريب في بناء المعرفة العلمية؟ وهل يمكن للمنهج التجريبي الاستغناء عن الخيال العقلي؟
المقاربات الفلسفية للتجربة والتجريب:
كلود برنار: المنهج التجريبي وحده الكفيل ببناء نظرية علمية بالاعتماد على التجريب العلمي
يعتبر كلود واحدا من الفلاسفة الذين أعادو صياغة المنهج التجريبي ولكن دافعوا عليه في صيغته الكلاسيكية. ويعتبر التجريب أو فن الحصول على تجارب دقيقة ومحددة، هو الأساس العملي، بمعنى أن بناء المعرفة العلمية في مجال العلوم التجريبية هو المنهج التجريبي بخطواته الأربعة الأساسية وهي: الملاحظة، الفرضية، التجربة ثم استنتاج القانون.ويركز كلود برنار على أن أساس المعرفة العلمية موجود في الملاحظة والتجربة.
روني طوم:يؤكد على أن المنهج التجريبي لا يمكنه الاستغناء عن الخيال
ويدافع روني طوم عن المنهج التجريبي في صيغته المعاصرة، بحيث يعتبر أن المنهج التجريبي لا يمكنه الاستغناء عن الخيال العقلي، وبالتالي فالعقل لا يحظر فقط في الفرظية بل في مجموع مراحل المنهج التجريبي. ومن هنا يكون روني قد أعاد الاعتبار لدور العقل في بناء المعرفة العلمية بواسطة المنهج التجريبي.ويميز هذا الرياضي الفيلسوف الفرنسي بين التجربة بمعناها الخام والتي لم تلعب أي دور في نشأة العلم الكلاسيكي بل شكلت عائقا لتطوره في الحقيقة وبين التجريب والذي يتميز بكونه مسألة منهجية للطبيعة، تصاغ بلغة رياضية دقيقة.
تركيب : كخلاصة، يتأكد ان إنتاج المعرفة العلمية، أو بناء النظرية العلمية، رهين بالعلاقة المتبادلة بين التجربة والتجريب، بحيث أن التجريب يجسد ما هو واقعي ملموس، والتجربة الذهنية تمثل نشاطا رياضيا حرا للعقل. والاختلاف في المواقف يجد تفسيره في تباين المنطلقات الفكرية بين تصور يبدو سجين النزعة الوضعية التي تنظر إلى التجريب كمصدر وحيد لبلوغ اليقين العلمي، وموقف لا وضعي يؤكد على اندماج الخيال في صميم المنهج العلمي.
المحور الثاني : العقلانية العلمية
المواقف والمقاربات:
ألبرت اينشتاين:المبدأ المبدع والخلاق للعلم يوجد في العقل الرياضي
بالحديث على الاساس العقلاني، فأهم موقف يمكن استثماره لبناء تصوري هو موقف ألبرت اينشتاين، والذي يعتبر أن التجربة لا تشكل بمعناها الكلاسيكي اساس المعرفة العلمية وتقدمها، اذا فهو ضد الفكرة على ان التجربة هي اساس او هي منطلق المعرفة. فالمعرفة العلمية المعاصرة اصبحت تقوم على مقدمات العمل الرياضي القائم على الستنباط والاستنتاج والتماسك المنطقي الرياضي، بحيث تكون نتائج هذا النسق الرياضي متطابقة مع التجربة. ويمكن أن نفهم ذلك من خلال المعرفة العلمية المعاصرة.
غستون باشلار:تنبني المعرفة العلمية على الحوار ما بين العقل و التجربة
ينطلق باشلر من المبدأ الفزيائي المعاصر لتفسير العقلانية العلمية، بحيث يعتبر ان هناك تعاون ما بين العقل والتجربة في بناء المعرفة العلمية. فالمعرفة العلمية حسب وجهة نظر باشلر هي نتاج للحوار بين العقل من جهة و التجربة من جهة أخرى. فلا النزعة العقلانية الكلاسيكية المنغلقة، ولا النزعة الاختيارية السطحية والساذجة، بامكانهما تحقيق المعرفة العلمية أو الاسهام في التقدم العلمي. ذلك أن الواقع العلمي عند باشلار ليس واقعا حسيا معطى بشكل مسبق، وإنما هو واقع يقوم العقل ببنائه بطريقة رياضية، كما أنه ليس واقعا مستقرا وثابتا وإنما هو واقع متغير ومتحول. وحسب قولة باشلر الشهيرة والتي استمدها من امانويل كانط، وهي أنه “لا وجود لعقلانية جوفاء ولا وجود لتجربة عمياء“، بمعنى أن العقل وحده بدون معطيات حسية يكون اجوف، وكذلك تجارب بدون عقل تكون عمياء، اي ان العقل هو الذي يوجه التجربة.
خاتمة:ان النزعة العقلانية تتحدد من خلال إعطاء الأولوية للعقل وأحكامه، باعتباره عقلا كونيا واحدا. غير أن تطور العلوم، سواء منها العلوم الدقيقة، أو العلوم الانسانية، أو العلوم المعرفية، سيفتح المجال أمام مقاربة جديدة للعقل ودوره، وسيقود الى تأسيس عقلانية جديدة، معاصرة، تقدم نفسها كبديل “للعقلانية الكلاسيكية”، تراجع أسسها ومنطلقاتها، وتركز بالتحديد على دور العقل وميكانيزمات اشتغاله في انتاج المعرفة العلمية، وهي ما نسميه بالعقلانية العلمية.
البناء الاشكالي لمحور معيار علمية النظرية العلمية:ما معيار علمية النظرية العلمية؟ هل هو مطابقة الواقع التجريبي أم شرط التماسك التجريبي؟
المـــواقــف و التصـــورات لمحور معيار علمية النظرية العلمية:
اينشتاين:يؤكد أينشتاين أن النظريات العلمية المعاصرة فرضت عِلميتها بمعيار العقل والتماسك المنطقي.وحُجة اينشتاين هي أن المفاهيم والمبادئ التي يتكون منها النسق النظري للعلم (فيزياء، رياضيات، منطق…) هي إبداعات حرة للعقل الرياضي المجرد، وهي التي تشكل الجزء الأساس من معيار علمية النظرية العلمية، لتبقى التجربة بمثابة مرشد في وضع بعض الفرضيات وفي تطبيقها تجريبيا.
كارل بوبر:يرى كارل بوبر أن معيار علمية النظرية العلمية، يتجلى في قابليتها للتكذيب أو للتفنيد.يشبه النظرية بالآلة الميكانيكية، فيعتبر ان كل آلة لا تقبل تفكيكها والبحث عن مكامن الخطأ فيها، لا يمكن اعتبارها صحيحة، وكل آلة لا يمكن تكذيبها، أي اختبارها، لا يمكن اعتبارها تجريبية. هكذا يجب على النظرية، إن شاءت أن تكون علمية، أن تكون قابلة للتنفيذ والتكذيب.
بير دوهايم:يتحدد معيار التحقق من صِدقية النظرية العلمية في نظر المدرسة التجريبية في قابليتها للتحقق التجريبي.مادامت النظرية أصلا هي صورة ناسخة لموضوعات الواقع التجريبي، حيث التجربة هي منبع النظرية ومِحكها ووسيلة بيان صدقها مِن كذبها، ولا يصح نعث معرفة ما بصفة “العلمية” ما لم تخضع للفحص التجريبي، وكل تجاوز لهذا الشرط فهو خروج من العلم وارتماء في أحضان الأسطورة والمعرفة الخيالية والمثالية المجردة…
خــــــــلاصـــــة:لا وجود لنظرية علمية مطلقة وثابتة، إذ أن العلم يخضع للتطور ويجدد نفسه باستمرار سواء على مستوى مناهجه أو موضوعاته الأمر الذي ينعكس حتى على المعايير التي يتم اعتمادها للحكم على صلاحية النظريات العلمية، بحيث يمكن التمييز بين معيار علمية النظرية العلمية العقلي، المنطقي والصوري خاصة في العلوم الرياضية وبين معيار مادي تجريبي في العلوم التجريبية.
رابط فيديو الدرس : اظغط هنا
تعليقات
إرسال تعليق