مفهوم الحقيقة:
المواقف و المقاربات الفلسفية:
ليبنتس: يؤكد الألماني ليبنتس أن الرأي معرفة ذات طبيعة احتمالية. و بذلك فهو لا يتعارض مع المعرفة البرهانية و الحقيقة. لأنه حينما نعجز عن الحسم في قضية ما بشكل قطعي، فإننا نلجأ إلى تحديد درجة الاحتمال لكي نصدر الحكم بطريقة عقلانية. و بذلك فإننا نكون في مجال الآراء. فالبحث في درجات الاحتمال هو ما تفتقر إليه الدراسات المنطقية العلمية.
باشلار: يرى باشلار بأن الرأي دائما على خطأ مادام أنه غير قابل للتبرير النظري العلمي، ومادام أنه مرتبط بالحاجات والمنافع المباشرة، ويعتمد على التلقائية والعفوية في تناوله للأمور. وهذا ما جعل باشلار يتحدث عن قطيعة إبيستمولوجية بين الرأي والحقيقة العلمية،إذ تبنى معارف الفكر العلمي بناءا نظريا وعقليا. كما تخضع لمناهج عقلية ووسائل علمية تمنحها طبيعة خاصة، تجعلها تختلف بشكل جذري عن الآراء العامية السائدة في المجتمع. في هذا السياق يرى باشلار أن الفكر العلمي لا يتناول سوى القضايا التي يستطيع البرهنة عليها، كما أنه لا يطرح سوى الأسئلة التي يمكنه الإجابة عنها. وهذا ما يجعل الحقيقة العلمية مبنية ومؤسسة على قواعد العقل العلمي، في حين يسمح الرأي لنفسه بالاعتقاد في كل القضايا وطرح كل المسائل.
المحور الثاني : معايير الحقيقة
إشكالية محور معايير الحقيقة :
ما هي معايير الحقيقة؟ هل هي مطابقة الفكر لمبادئه؟ أم مطابقة الفكر للواقع؟ أم كلاهما معا؟
المواقف و المقاربات الفلسفية لمعايير الحقيقة:
ديكارت:
إدراك الحقيقة يتم بواسطة الحدس أولا ثم الاستنباط ثانيا. فالحدس والاستنباط هما فعلان لفحص الحقائق وتمييزها عن الاخطاء. بل هما اساس معايير الحقيقة.
يرى الفيلسوف الفرنسي ديكارت (René DESCARTES 1596- 1650) أن المعيار العقلي هو أبرز معايير الحقيقة. فالعقل معيار من معايير الحقيقة وهو أعدل قسمة بين الناس، و الحقيقة لا توجد إلا في العقل وحده، فهو مصدر الحقيقة و معيارها، و على الإنسان أن يُحْسِن و يُحْكِم استخدام العقل لتكون منطلقاته و نتائجه يقينية. و يميز ديكارت بين نوعين من الحقيقة، حقيقة تعلم بالحدس و هي البداهات، وحقيقة تعلم بالاستنباط و هي النتائج المنطقية. والحدس نور عقلي لإدراك الحقائق البديهية مباشرة و على الفور. فالحدس و الاستنباط إذا عمليتان عقليتان بهما نميز بين الحقيقة و اللاحقيقة. و ما لا يعلم بالحدس أو الاستنباط ليس حقيقة. ويقول ديكارت : ” إننا نعرف الحقيقة حينا بالحدس، و حينا بالاستنباط.” و يشترط ديكارت للحصول على اليقين الذي لا يخالطه شك احترام العقل لأربعة قواعد منهجية هي : البداهة – التحليل – التركيب – المراجعة .
جون لوك:
فيما يخص معايير الحقيقة يرفض أصحاب المذهب التجريبي الذين يرون بان التجربة والحس هما المصدر الاول والمباشر لما نعلمه من حقائق، وهذا ما عبر عنه أحد أقطاب هذا المذهب في انجلترا وهو “جون لوك” بقوله: ” إن العقل يولد صفحة بيضاء ليس فيها أي شيء قبل التجربة وان جميع أفكارنا مستقاة من التجربة إذ لايوجد في العقل شيء إلا وقد سبق وجوده في الحس” فالتجربة وحدها هي التي تنقش في عقولنا المبادئ والأفكار، وهكذا فليس هناك إطلاقا معان فطرية وموروثة إذ لو كان الأمر كذلك لتساوي الناس في المعرفة في كل زمان ومكان، في حين نجد ان الناس يختلفون في ذلك كثيرا، فالأعمى لايدرك الألوان والأطفال والمعتوهون لايدركون معنى الذاتية وعدم التناقض ولا معنى الجدية.
المحور الثالث : الحقيقة بوصفها قيمة
إشكالية محور الحقيقة بوصفها قيمة:
المواقف و المقاربات الفلسفية:
كانط:
يرى كانط أن الحقيقة غاية الجميع ، فهي مطلوبة عقليا و منشودة أخلاقيا. إنها ما يجب أن يعلمه المرء و يعمل به. فالبحث عن الحقيقة وقَوْلُها واجب أخلاقي، فلا أحد يبحث عن الخطأ من أجل الخطأ. و الكذب ليس قيمة حتى يكون هدف الإنسانية و غاية البحث العلمي. و قد يؤدي الكذب إلى مصلحة فردية و يعود على الشخص بالنفع، لكنه لن يكون قيمة عقلية و هدفا إنسانيا. هذا ما يجعل الحقيقة فضيلةً والبحث عنها و قولها واجب مطلق لا يجوز عقليا و أخلاقيا التكتم عليها و إخفاؤها و إلا ساد الكذب و انتشر التضليل وتم الترويج للمغالطات. فقيمة الحقيقة في الارتقاء بالقدرات العقلية و استقامة السلوك.
وليام جيمس:
أصبحت الحقيقة مع الفلسفة البراغماتية حقيقة مرتبطة بقيم العصر كالمنفعة، العمل والمردودية والإلتصاق بالواقع الإجتماعي والإقتصادي والسياسي وبناءا على ذلك قام “وليام جيمس” بانتقاد التصور التقليدي الفلسفي للحقيقة معتبرا أنه إذا كانت الحقيقة في الفلسفة المثالية حقيقة عقلية خالصة لا علاقة لها بالواقع بل إن الواقع هو الذي يجب أن يطابقها فإن النزعة البرغماتية تقف على طرفي نقيض من هذا النصور إذ ترى أن الحقيقة ليست فكرية وأن الأفكار لاتستمد حقيقتها من ذاتها وإنما بالنظر إلى مردودها على حياة الإنسان ومدى ما تقدمه من منفعة مادية له. إن الحقيــقي عند ” وليام جيمس هو المـــفيـــــــــد.
خلاصـــــــة :
تتعدد معاني الحقيقة و تتنوع معايير تمييزها و قيمها؛ فتعدد أوجهها دليل على طابعها الإشكالي، و دليل على أن ليس ثمة خطاب واحد يمتلكها أو يمثلها في مختلف أبعادها و وُجُوهِها. وعليه لا ينبغي النظر إلى مختلف المواقف أنها تصورات متناقضة معادية لبعضها بل تدل على نسبيتها، و أن كل واحدة تمثلها من زاوية معينة وفي حقبة محددة لا في شموليتها و إطلاقها. إذا فكل فلسفة أو علم أو نظرية إن هي إلا تعبير نسبي مؤقت للحقيقة أو لحظة في سيرورة البحث عنها دون أن تكون الكلمة الفصل أو النهائية.
تعليقات
إرسال تعليق